الديمقراطية في مهب الريح- تحديات الهيمنة والهشاشة الجيوسياسية

مع انقضاء كل عام، تتوالى التقارير المتنوعة التي ترصد وضع الديمقراطية في شتى أنحاء العالم، مسلطةً الضوء على مسارات التقدم والتراجع التي تشهدها الدول. تتضمن هذه التقارير مؤشرات ومقاييس "كمية" للديمقراطية، تعمل على تقييم أدائها بناءً على مجموعة من العوامل المحددة، والتي تُترجم إلى مستوى رقمي لكل دولة، ومن ثم يتم ترتيبها بين دول العالم الأخرى.
تنشط العديد من الشبكات الغربية التي تضم عشرات المؤسسات ومراكز البحوث والدراسات ومراصد المراقبة، والتي تعنى بمتابعة حالة الديمقراطية في مختلف البلدان. بيد أن بعض هذه الشبكات قد تكون بمثابة حصان طروادة يهدف إلى اختراق نخب دول العالم وتكوين ناشطين، من خلال التمويل، وتنظيم المؤتمرات، وبرامج التدريب وورش العمل، مما قد يؤدي إلى الوقوع في مصائد التجنيد والتحريض، وإشعال ما يُعرف بالثورات الملونة، وتنفيذ انقلابات جيوسياسية تحت ستار التحول الديمقراطي.
من المفترض أن تهتم هذه التقارير برصد عناصر "الممارسة الديمقراطية"، بدءًا من الحريات الشخصية والصحفية، مرورًا بالتعددية الحزبية، ونزاهة الانتخابات، وحرية التجمعات، وصولًا إلى تداول السلطة. كما يجب أن ترصد معززات الديمقراطية، مثل التشريعات، وسيادة القانون، والحقوق المدنية، وحق الاقتراع، وحصانة صناديق الاقتراع. وفي المقابل، ينبغي عليها تتبع عوامل تراجع الديمقراطية، كالانقلابات العسكرية، والدكتاتوريات، والسيطرة الأمنية، والنزعات الفاشية والشعبوية والعنصرية.
وفي هذا السياق، أشار باحث بارز، متخصص في متابعة الركود الديمقراطي، إلى أن عام 2024 شهد إجراء 77 انتخابات في مختلف أنحاء العالم. وفي المقابل، كشفت تقارير رصد الديمقراطية لعام 2006 أن 120 دولة كانت تتبنى النظام الديمقراطي. هذه المعطيات تثير مخاوف حقيقية بشأن تراجع الديمقراطية وتضاؤل القناعة بجدواها كنظام الحكم الأمثل.
الثورة المضادة (العربية)
من بين الأسباب التي أدت إلى هذا التراجع، تفاقم الفساد وعجز مؤسسات النظام الديمقراطي المحلي عن ممارسة الرقابة والمحاسبة ووضع حد لهذه الظاهرة. ولكن الأهم من ذلك يتمثل في تدخل القوى الكبرى التي تدعي نشر الديمقراطية وتفرضها بالقوة، وتتواطأ على الديمقراطيات الناشئة عندما لا تمتثل لإملاءاتها.
لقد اتفقت ثورات الربيع العربي على أن الديمقراطية هي خيار استراتيجي، وانخرطت في مسار التحول الديمقراطي عن قناعة ورغبة، والتزمت بفرضياته ومتطلباته. غير أن هذا المسار تعرض للإجهاض نتيجة للحصار والضغوط والانقلابات التي قادتها الثورة المضادة (العربية)، المتحالفة مع الغرب والكيان الصهيوني. وقد امتنعت دول التحالف الغربي حتى عن وصف هذه التحركات بالانقلابات، خشية اتخاذ إجراءات ضدها.
اعتبرت بعض الدراسات أن القرن الماضي كان عصر الازدهار الديمقراطي، ولكنها تتجاهل حقيقة أن الحرب الباردة بين القوتين العظميين قد حدت من قدرتهما على التدخل في شؤون الأنظمة الديمقراطية وغير الديمقراطية. والحقيقة أن نقطة الضعف الأساسية في التحول الديمقراطي والمأزق التاريخي الذي يواجهه تتمثل في التحديات الإستراتيجية والتهديدات الجيوسياسية.
فمعظم الدول التي ترغب في التحول الديمقراطي تتسم بالضعف الشديد في مواجهة الهيمنة الإمبريالية، نظرًا لاختراقها على المستويات النخبوية والأمنية والعسكرية، وتبعتها الاقتصادية. وبالتالي، فهي تفتقر إلى القدرة على الدفاع عن نفسها أو استعادة أراضيها المحتلة من الاحتلال والعدوانية الصهيونية والإمبريالية، إلا من خلال الخضوع التام للسياسات والإملاءات الإمبريالية والتبعية الكاملة للمركز الغربي. بل يكاد يكون شرط "استقرار" أي نظام "ديمقراطي" أو غيره في هذه الدول الهشة هو استمرار وتكريس التبعية للغرب الرأسمالي وهيمنته الإمبريالية.
العسكر وأزمة الديمقراطية
قام باحثون بدراسة الأسباب التي أدت إلى استقرار الممارسة الديمقراطية في الهند، وتعثرها المزمن في باكستان، وذلك نتيجة لانقلابات الجيش الباكستاني وتدخله المستمر في شؤون الأحزاب السياسية واستتباعها وتدبير انقلاباتها الداخلية أو إقصائها. وقد أدى ذلك إلى عجز الحركة الوطنية عن إنتاج تيار وطني رئيسي يقود البلاد، ويضمن الاستقرار وتداول السلطة بين مختلف مكوناته.
في ظل التهديدات الوجودية التي تواجهها باكستان من قبل الهند، والتي أدت إلى حروب أفقدت الأولى شطرها الشرقي، والخنق والحصار الأميركي، خاصة بعد تسلح باكستان نوويًا ردًا على الابتزاز النووي الهندي، اضطلعت المؤسسة العسكرية بدور محوري في إدارة شؤون البلاد منذ الاستقلال، ونصبت نفسها مرجعًا أعلى للدولة.
لذلك، يلاحظ وجود نمط متكرر من تدخلات العسكر التي تهدف إلى إبعاد الأغلبية عن السلطة وإقصاء الأحزاب "المناوئة" لتدخلاتهم، ورعاية أحزاب مُدَجّنة وتسليمها السلطة، حتى بدون شرعية شكلية. ويتم التلاعب بالمحاكم العليا، وشراء ذمم السياسيين والنواب لإحداث انشقاقات وأزمات في الحكومات المنتخبة، مما يؤدي إلى ندرة الحكومات التي تكمل فترتها الدستورية.
من بين الأحزاب الأكثر تمسكًا بالديمقراطية في باكستان، على الرغم من أنها نادرًا ما تحكم، نجد أحزابًا وجمعيات ذات مرجعية إسلامية، كالجماعة الإسلامية وغيرها، منذ تأسيس باكستان بقيادة زعيم الرابطة الإسلامية لمسلمي الهند، "قائد أعظم" محمد علي جناح (1876-1948)، وهو علماني ذو خلفية إسماعيلية.
وبعد رحيله ووقوع انقلاب الجنرال أيوب خان، ترشحت زعيمة المعارضة فاطمة جناح (1893-1967)، الأخت الصغرى لقائد أعظم، وحظيت بدعم الجماعة الإسلامية بزعامة السيد أبو الأعلى المودودي (1903-1979)، منظر الحركة الإسلامية في النصف الأخير من القرن الماضي. وما زالت القوى الإسلامية قادرة على الحشد والاحتجاج والتظاهر ضد الفساد السياسي، ونصرةً للخيار الديمقراطي وقضايا الأمة.
ثغور وحدود دامية
وقد يتساءل البعض: لماذا تحقق التحول الديمقراطي في دول شرق ووسط أوروبا، ولم يحدث في جمهوريات آسيا الوسطى (السوفياتية السابقة)؟ وهي سبع دول إسلامية باستثناء أرمينيا. لقد استبدلت معظم هذه الدول بأنظمتها الشيوعية السابقة أنظمة قومية شمولية تحت سيطرة بيروقراطية الأحزاب الشيوعية الحاكمة سابقًا وأجهزتها الأمنية، واتخذت إجراءات (ديمقراطية) شكلية لشرعنة الأنظمة الجديدة وانقلاباتها الداخلية، مع تغيير أيديولوجي استبدل القومية السلطوية العاجزة باقتصاد رأسمالي نيوليبرالي محا مكتسبات العدالة الاجتماعية السابقة.
تعاني معظم هذه الدول من صعوبات اقتصادية، وتهديدات جيوسياسية وهيمنة روسية، وتوريث الحكم في العائلات، وأزمات هوية، حتى أن بعضها استبدل الأبجدية اللاتينية بدل الروسية في كتابة لغته! فضلًا عن تحقيق تحول ديمقراطي حقيقي.
لقد حول النظام الدولي الإمبريالي دول العالم الإسلامي من مناطق مستقرة جيوسياسيًا بأهلها وإثنياتها وحضاراتها إلى بلاد محتلة أزمانًا طويلة و"ثغورًا" متنازعًا عليها وساحات "حروب".
وكان صامويل هنتنغتون في مقاله الشهير "صدام الحضارات" بمجلة فورين أفيرز، قد أشار إلى "حدود دامية" تحيط بأقطار العالم الإسلامي (كمؤشر على عدوانية المسلمين وتورطهم في صراعات مزمنة!)، وحتى وإن لم تكن حدود جميع أقطارهم دامية، فهي هدف "طبيعي" للنفوذ الغربي والهيمنة الإمبريالية. ولا تسمح التهديدات الجيوسياسية المستمرة والاختراق الغربي بإرساء استقرار سياسي يقوم على نظام تمثيلي تعددي، حر وحقيقي، يعبر عن اختيارات الأمة في أي من أقطارها.
الديمقراطية والمشروع الإمبريالي
هناك سياق تاريخي لنشوء النظام الديمقراطي من رحم الدولة القومية الأوروبية الحديثة بدلًا من الدولة الإمبراطورية، وذلك عقب انتهاء الحروب الدينية وإبرام معاهدة ويستفاليا للسلام عام 1648. وقد تزامن ذلك مع انطلاق حركة الاستعمار والاستيطان الأوروبي في القرن السادس عشر، وكذلك مع المرحلة الميركانتيلية التجارية التي شهدت تأسيس شركات الهند الشرقية (المسلحة).
وقد أثبتت الدولة القومية أنها أكثر كفاءة من سابقتها في تولي مشروع الاستيطان والإبادة بركائزه الأربعة: الإمبريالية والرأسمالية والعنصرية والفاشية، ورؤية معرفية إمبريالية تنكر التكريم الإلهي للإنسان وتتسم بالعنصرية والصراعية والمركزية الأوروبية النافية.
جاء الانتقال إلى نموذج الدولة القومية بحقوق المواطنة، والتعددية الحزبية، والضوابط والتوازنات الدستورية، والبرلمانات المنتخبة، والفصل بين السلطات، بهدف بناء الأمم الأوروبية وتحرير الأقنان والمهمشين لتجنيدهم في المشروع الإمبريالي. وكانت المرأة آخر من حصل على حق الترشح والانتخاب نظرًا لعدم أو محدودية فائدتها لهذا المشروع.
وقد امتد دور الدولة القومية من تشكيل النظام الأوروبي إلى تعميم النموذج ورؤيته المعرفية على المستوى الدولي، ليصبح جوهر نظام دولي يستبيح العالم ويسحق البشرية لقرون طويلة، وشهد استعمارًا واستيطانًا وقهرًا وإبادة ونهبًا وإفقارًا وتجويعًا، وتدميرًا لحضارات وثقافات إنسانية في مختلف أنحاء العالم.
الاستقلال والعدالة الاجتماعية والتمكين
في العالم الإسلامي، مثلت المسألة الشرقية والتحديث الأوروبي الإمبريالي تحديًا وجوديًا هائلًا فرض عليه مسارًا تحديثيًا متعجلًا في القرن التاسع عشر، استهدف الجيش والدولة في الدولة العثمانية ودولة محمد علي باشا وإيران القاجارية، وفكك مؤسسات الاجتماع التاريخية بها، ونقلها إلى نموذج الدولة القومية بمركزيتها وجبايتها وسلطويتها وتهميشها للأمة. وما زالت الفجوة واسعة بين التحديث والتمكين بين المركز (الدولة) والأطراف (شعوبها)، مما يكرس توازنًا مختلًا بين الدولة والأمة، حتى أصبحت الدولة في مواجهة الأمة.
لذلك، لا يمكن تحقيق تحول ديمقراطي ونظام تمثيلي حقيقي دون معالجة الاختلالات السابقة من خلال برنامج ثلاثي الأركان:
- استقلال كامل يمنع الاختراق ويردع التدخل الأجنبي ويعزز المناعة الوطنية.
- عدالة اجتماعية تعيد توزيع الثروة بآليات عديدة تنتمي إلى أصول الاجتماع العربي الإسلامي التاريخية والحضارية وتعزز السلام الاجتماعي.
- تمكين الأمة وتوسيع المشاركة الشعبية في دوائر صنع القرار والسلطة المحلية والمركزية وردع تغول الدولة وتوسيع مساحة الأمة.
ينبغي بناء إجماع واسع على هذا البرنامج، وأن تناضل الحركات الوطنية بكافة تشكيلاتها وألوانها لتحقيقه وصولًا إلى حياة ديمقراطية شاملة.
إذًا، السبب الأهم في الركود الديمقراطي هو هشاشة الدول والتهديدات الجيوسياسية وضعف المناعة الإستراتيجية، فغاية أي ديمقراطية أو نظام تمثيلي أو حكم رشيد هي تمثيل الأمة وحفظ هويتها ومصالحها وإنفاذ إرادتها المستقلة الحرة في مواجهة رياح الهيمنة الإمبريالية العاتية.
هذا ربما ما لا تلتفت إليه التقارير الصادرة سنويًا حول أوضاع الديمقراطية في العالم ومؤشراتها، وهي ترصد تراجع الديمقراطية خلال السنوات الماضية، وانكسار موجة التحول الديمقراطي بعد صعودها في أوائل التسعينيات الماضية عقب تفكك الاتحاد السوفياتي وحلف وارسو وانهيار الأنظمة الشيوعية الحاكمة في شرق ووسط أوروبا.
وللمفارقة، لا تنفصل الدوافع الكامنة وراء هذه الموجة عن التوجه نحو عضوية الاتحاد الأوروبي بهدف تحقيق الأمن الاقتصادي، وعضوية حلف شمال الأطلسي (الناتو) لتحقيق الأمن القومي والاستقرار الجيوسياسي!